وقفَ السيد الصقر يؤازرُ زوجته الباكية أمام قبر أخيها
البطل الشهيد محمد بالكرخ ، حتى هدأتْ قليلاً
وأخذتْ تدعو ربّها لأخيها بالرحمة ، وترتلُ آيات القرآن
الكريم على روحه الطاهرة ....
وهنا تداعتْ الذكرياتُ الحزينةُ أمام السيد الصقر ، فتذكَّرَ
صديقه الحميم الشهيد محمد ، وكيف التحقا سوياً
بكلية القوة الجوية العراقية ، وتخرَّجا طياريْن ، وأصبحا
صديقين حميمين ، لدرجة أنَّ صديقه محمد عرَّفه على
حبيبته الفتاة رحمة ، والطالبة بجامعة بغداد ، وكيف
كان الصقر ثالثاً للعاشقين فى لحظات لقائهما
ويسيرون جميعاً على شاطئ نهر دجلة يتغنون مع
محمد بأغنيته الوطنية المفضلة :
( ياكاع ترابج كافورى وعالساتر هلهل شاجورى )
فيدارى محمد دمعةً لمعتْ فى عينه عشقاً لتراب
العراق الغالى على قلبه ......
وتمنّى السيد الصقر توطيدَ علاقته أكثر مع صديقه
الغالى محمد ، فطلب الزواج من شقيقة صديقه محمد
ليحققَ أمله أن يكونَ صديقه خالاً لطفله القادم الذى
يحلمُ بمجيئه .... وفعلاً تزوَّجَ السيد الصقر شقيقة محمد
ويالفرحته عندما زادتْ أواصر الصلة مع صديقه الحميم...
ثمّ كان ذلك اليوم الموافق 25 من يناير 1991 عندما تمَّ
تكليف الصديقين الطياريْن بضرب بعض أهداف العدو
الأمريكىّ ، فارتقى كلٌّ منهما بطائرته الحربية يحلقان
فى سماء بغداد ، ويضربان الهدف تلو الآخر ، حتى
أسقطا عدد ( 36 ) طائرةً أمريكية ، ويتبادلان الحوار كل
لحظة وأخرى من لاسلكى الطائرة ، ويبشر السيد
الصقر صديقه بأنَّ أخته ستضعُ اليوم مولودها الأول
ليكونَ بطلاً مثل خاله محمد ......
وأما البطل محمد فكانَ فى غاية الفرح كلما ضربَ هدفاً
أمريكياً ويرددُ : الله أكبر ... ثم يقولُ لصديقه الصقر :
أبشرْ ياصديقى الصقر فإننى سأتزوجُ نهاية هذا الأسبوع
عقب إنهاء مهمتنا ...
ثم ينزلان على الأهداف الأمريكية بكل عزيمة
فيحطمانها هدفاً هدفاً ، ومازال البطل يرددُ :
( ياكاع ترابج كافورى وعالساتر هلهل شاجورى )
ثمَّ توقَّفَ الغناءُ لحظاتٍ ، فقلقَ السيد الصقر على رفيقه
محمد ، وأخذ ينادى عليه : أين أنتَ ياصديقى ...
فيردّ البطل محمد : أنا معكَ ياصقر ، ولكننى أحسّ الآن
بأنَّ السماءَ أنيرتْ بملائكةٍ نزلتْ لتزفنى....
ثمّ انقطعَ الحوارُ فجأةً ، فنظرَ السيد الصقر لطائرة صديقه
فوجدَها تتهاوى إلى الأرض رويداً رويداً ، فأحسَّ الصقر
بأنَّ الدنيا قد أظلمتْ نهائياً من دون نورٍ ، وأصرَّ على
المغامرة والنزول ؛ لحمل جثمان صديق عمره إلى
طائرته ؛ ليدفنَه بالكرخ وسط هله ....
وهنا أفاقَ الصقر لحظاتٍ أمام مقبرة صديقه ، ومازالتْ
زوجته تبكى أخاها ، وهىَ ترتّلُ آيات الذكر الحكيم
ثم شردَ ثانيةً ؛ ليتذكرَ كيف عادَ لبيته ، يحملُ لهم الخبر
المشئوم بسقوط البطل ، وفى ذات الوقت خرجَ إلى
الدنيا أملٌ جديدٌ بطفله الذى وضعتْه زوجته الآن
فأقسمَ أنْ يعلّمَه الطيرانَ ؛ ليثأرَ لخاله الذى فدى تراب
العراق بدمه الغالى ..... فاستقبلَ وليده الجديد ببسمةٍ
صفراءَ شابَها حزنٌ ودمعةٌ أبتْ أنْ تتوقفَ ، ففهمتْ والدة
زوجته بأنَّ ابنها الوحيد قد استشهدَ ، ورفضتْ قدمها أنْ
تقفَ مرةً أخرى على الأرض .....
ولن ينسى الصقر لحظة حضور حبيبة صديقه الفتاة
رحمة ، وقد اشترتْ فستانَ الزفاف الأبيض ؛ ليشاهده
قبل حفل الزفاف بيومين ، فدخلتْ غرفته متلهفةً على
لقاء حبيبها ، لتجد صورته وعليها ذلك الشريط الأسود
فأصرَّتْ أنْ تلبسَ الفستان ، وتنامَ على فراشه عدة
أيامٍ لايجفُّ فيها الدمعُ ، ولايتوقفُ القلبُ عن الحسرة
والألم ... ثم اختفتْ بعد ذلك فى خضم الحياة..
وامتلأتْ الحياة بالكآبة والمرارة ، فأخذَ الصقر زوجته
وأمها بعيداً عن بيت الأحزان ، ولم تمضِ شهورٌ حتى
حانتْ لحظة وداع أم صديقه ، وقد نادتْه لحظة احتضارها
لتشكرَه على وقفته وشهامته معها ، وقبّلتْ يده عرفاناً
لما فعله معها ، وأنه كان معها نعم الابن البار الذى
عوضها عن فقدانها لوحيدها الشهيد محمد
ثم أوصتْه بأنْ يغسّلها بعد وفاتها ، وصعدتْ روحُها
إلى بارئها ، ولم يمرّ عامٌ حتى لحقها
زوجها ؛ لتكونَ المقبرة واحة الأحباب وآهٍ من الفراق ...
وأفاقَ السيد الصقر من غفوته أمام قبر الأحباب
وغلبتْه الدموعُ الغزيرة على فراق صديقه حتى جذبه
طفله من يده قائلاً :
سأكونُ يا أبى بطلاً مثل خالى الشهيد محمد
وأفدى ترابَ العراق الغالى ، وأغنى مثله :
( ياكاع ترابج كافورى وعالساتر هلهل شاجورى )
فتبدّلتْ أحزانه إلى بسمةٍ فى أملٍ مشرقٍ لتلك البلاد
والتى تنجبُ الأبطال ، وأخذ يناجى روحَ صديقه بأبياتٍ
للشاعرة العراقية زهره النرجس ترثى فيها أخاها
الشهيد فراس قائلة :
حبيبي الغالي
يامَن لم أنسَه ولنْ أنساه لحظة
كنتَ لي أخاً وأباً وصديقاً وحبيبا
كنتَ لي العالم بأسره
أتدري كم أحتاجكَ
أتدري لوعة اشتياقي لك تجعلني أعتصر من الألم ألما
دموعي تتساقط الآن
شوقي لكَ
أبحر ووديان وجبال
شوق الطفل لحنان الأم
شوق الشمس لساعات السحر
شوق العاشق لأول قصة حب
أنت ياأملاً اغتالتكَ يدٌ آثمة
ألم يعلمْ مَن اغتالكَ
أنّ الشمسَ سوف تشرق بحزن
بعد فراقكَ
ألم يعلمْ أنّ القمر سينعاكَ يوم تمامه
تمت بحمد الله
بقلمى
سمير البولاقى